تمثّل سيرةُ الحاج حسن بن علي العالي (١٩٢١- ٢٠٠٣) عنوانا نموذجيّا لسيرةِ فاعل الخير الذي يعرفُ، بالملموسِ والمعيوش، كيف يكون حالُ الفقراءِ والمحتاجين. لم تكن اليدُ البيضاء التي غمرت أهلَ البحرين، في كلّ الاتجاهات والمسافات؛ مجرّد يدٍ تؤدي واجبَ النّعمة والخيرات التي يُنعِمُ بها الله على عباده، ولم تكن يدا صغيرةً، أو يتيمةً، أو مشغولةً بالمواسم، تلك المواسم التي يستيقظ البعضُ فيها، حصْرا، للانضمامِ إلى حفلاتِ الإسهام في التّبرعات وتقديم المساعدات. كانت يدُ الحاج العالي مختلفةً كثيرا، وباختلافِ سيرتهِ عن كثيرٍ من التّجارِ الذين يصنعون، لسببٍ أو لآخر، الخيرَ إلى النّاس.
لم يُولد الحاجُ العالي في القصور، ولم تكن ثمّة ملعقة في فمهِ، لا ذهبيّة ولا غير ذلك. كان الفقرُ ينتشرُ مثل السّمومِ في الهواءِ وفي الزّوايا الضّيقة. قسوةُالحياةِ ترسمُ شقوقَها في الطّرقاتِ الوعرة، وعلى أجسادِ الفقراء. بدأ ابنُ المزارع من الصّفر، من “صفْرٍ” مُعْدَمة، لا شيء فيها ينبئ عن نماءٍ وشيكٍ أو حياةٍ مفترضة. لكن الصّبي – الذي امتهنَ بيْع الخضار والأسماك وهو في التّاسعة من عمره – قرّر أن يخوضَ الحياة كلّها، وأن يصنعَ الحلمَ المستحيل. بتحفيزٍ من والدهِ المزارع الفقير؛ لم تكن تشغل الشّاب مخاوفُ البدايةِ الصّعبة، أو انعدامُ الحوافز، أو قلّة المتاع. كان واضحا لديه أنّ المطلوب لأنْ يكون الرّزق الحلالكبيرا؛ ليس أكثر من عقلٍ نظيفٍ، وإرادةٍ لا تستسلم للصّخر، مع استنادٍ دائم على القلبِ الخيّر، وروحِ الإنسان، لكيلا يتيهُ في الشّوائبِ أو تبتلعه الأطماع. ابتكرَ ألوانا متنوّعة في التّحدي، وفي اختراقِ الصّعاب، وفي استثمارِ الفرص. لم يكن متعلّما، حيث الحياةُ وقتها لم تُتِحْ له أنْ يشقّ طريقَ التّعليم، حيث كان أكبرَ الأبناء، وكان عليه أن يساعدَ والده في إعالةِ الأسرة. ومرة أخرى، تظهرُ واحدةٌ أخرى من العلاماتِ غير المعهودةِ في سِير الوجهاء الكبار. الشّابُ المكافحُ الذي تشقّقت يداه، وانحنى ظهره، وهو ينتقلُ من مسقطِ رأسه، عالي، إلى سترة والمنامة بوسائلَ نقلٍ بدائيّة، لنقْلِ المحصول الزّراعي وغيره؛ استطاعَ أن يختبرَ أكثر من مهنةٍ وصناعة، وأن يبني من كلّ المهن خبراتٍ وإراداتٍ سرعان ما أثمرها بالانفتاح على الخبرات والمعارف الأخرى، ليسافر إلى كلّ بلدان العالم، مستكشفا المصانع، ومطّلعا على آخر المنجزات والآلات، وليجلب من هناك ما يُعينه على توسيع خُطاه، أكثر فأكثر، وليُكوّن بعدها كبرى المجموعات الصّناعيّة في البحرين.
لم تكن ميزةُ الحاج العالي أنّه “أوّل منْ جلب المصانع إلى البحرين“، وأنجزَ إمبراطوريّةً صناعيّةً وتجاريّة لا تُنافَسُ لعقودٍ من الزّمان، وهو الذي بدأ حياته في الفلاحةِ، ولم يدخل مدرسةً عامّة. إنّ الميزةَ الأكثر جدارةً بالاحتفاء؛ هو أنّ العاليّ فعلَ ذلك مع على حرْصهِ الدّائم على إبقاءِ ارتباطه بالإنسان، عبر فعْل الخَيْر والإحسان ومداواة الجِراح والجراحات، وهو لم يفعل ذلك إتماما لمتطلباتِ “بريستيج” رجل الأعمال بعد أنْ يصبحَ معروفا وتتناقلُ أخبارَه الصّحفُ ومجلاّت الأعمال، وإنّما كان ذلك، بالنّسبةِ للعالي، إكمالا لما تأسّسَ عليه – وهو العارفُ الخبير- من أداءِ واجبات التّكافل والتّعاون والتّضامن مع الفقراء، وسدّ حاجات النّاس في السّكن وفي التّعليمِ وفي العملِ وفي العيشِ الكريم، وكذلك الإسهام الوطنيّ في علاج الأزمات التي تعصف بالأوطان، وهي – هذه كلّها – من أعظمِ الأعمال، وأكثرها جلْبا للدّعواتِ الصّالحة، ولحظوظِ النّجاح غير المنقطع، وهو ما اختبرته سيرةُ الحاج العالي، وإلى يوم وفاته، حيث أبّنه كبارُ رجال الأعمال، وكبارُ العلماء، وجماهيرٌ غفيرة من كلّ الفئاتِ والطّبقات، من الفقراء والأكاديميين، وممّن لمسوا مناقب العاليّ، وأياديه البيضاء على القاصي والدّاني.
توفّي الحاج العالي في الرّابع من سبتمبر (٢٠٠٣)، قريبا من اليوم الدّولي للعمل الخيري، الذي أعلنته الأممُ المتّحدة في الخامس من سبتمبر من كلّ عام. بنى بيوتا للفقراء والمحتاجين، وخصّص أعمالا خيريّة لدعْم تعليم المحتاجين واستكمال دراساتهم العليا، وفي دعْم الصناديق الخيريّة، وأهل العلم، وكان ارتباطه بالدّين النقيّ معروفا لدى الجميع، فكان يؤدّي الحقوقَ إلى النّاس والشّرع، ولا يبخل في ذلك شيئا. وقد فعلَ ذلك لأنّه لم يتعالَ على الفقراء، حيث كان واحدا منهم، واكتوى وأهلُه بالحرمانِ وبلظى الأيّام. ولكن الحاج العالي، وكما فعلَ أسلافٌ كثيرون؛ تخطّى المحنَ والآلام، ولم يتهاون في النّهوضِ والبناء وتحقيق الإنجاز. مدرستُه تقول بأنّ العمرانَ يَطولُ مع الإنسان، وإنّ الإحسانَ يحافِظ على العُمران، وإنّ كلّ ذلك لن يكون له بقاءٌ أو ثمرةٌ تترى من غير إدارةٍحكيمة، وعملٍ منظّم ودؤوب.