رحلَ الشّاعرُ البحرينيّ غازي الحدّاد (١٩٦١-٢٠٢١م) في أوانٍ موشّحٍ بالسّوادِ والكآبة.. في وقتٍ يُشبه غمائمَ القلقِ التي تخيّمُ على المواطنين، والعالمِ، بفعْلِ توحّشِ كورونا. الجنائزُ التي تنتشرُ في الأجواء؛ كفيلةٌ بإخراسِ الرّؤوسِ الممدودةِ بالغرورِ والجَبروت. كأنّ ثمّة رسالةً كونيّة بأنْ يهدأ الإنسانُ قليلا، ويُلقي نظرات العَبْرة والعِبْرة على هذا الرّميم المكثّفِ في التّراب، ومن أطيبِ النّاسِ وأطهرهم. كان الحدّادُ، منذ عامٍ مضى؛ ينزاحُ بلا تفاصيل في ظلالِ الغيابِ والغيبوبة. صَاحَبته – بشغفٍ وحزنٍ – أفئدةُ البحرينيين، من كلّ المشاربِ والانتماءات. توافدت عليه القلوبُ المثقلةُ بالأكفانِ التي تُمْطرُ في ليالٍ مظلمة. تجمّعت في راحاتِ الأيدي جموعُ الابتهالات، وآمالُ عودةِ الشّاعر الذي أثخنَ الرّثاءَ وأبكى منابرَ العزاءِ ومواكبه. منذ الوجْعةِ/ الوقْعةِ الأليمةِ في محرابِ شعره؛ كان النّاسُ على أملِ أنْ يصحو الفارسُ من الكبوة، ويعودَ إلى ميدانِ الشّعرِ، وأنْ يفاجئهم بقصائدَ جديدةٍ في موسم عاشوراء المقبل. ولكن السّوادَ الأليمَ سرعانَ ما غطّى الشّوارعَ وملأ مشاعرَ الأهالي والعاشقين، حيث أُذيعَ في ٢٣ يونيو خبرُ الوفاةِ الفجيع.

نصبَ الجميعُ، في قلبهِ، راياتِ الحدادِ على شاعرٍ متمكّن، تبارتِ المعاني في قاموسه الأخّاذ. صناعةُ القصيدةِ، عند الحدّاد، لم تكن منفصلةً عن فعليْن مُنتجين لازماه دون انقطاع: الأوّل: فعْلُ الرّسالةِ الهادفة، والثّاني: فعْلُ الإطلالةِ السّاحرة. كان الحدّادُ شاعرَ معنىً وقيم. لم يكن معنيّا بالتّسويق التّجاري للموقفِ الشّعري، لأنّه يعلمُ بأنّ الشّعرَ حين يكون في خدمة “العلامة التجاريّة”؛ فإنّه يصبح في خدمة السّوق، ويكون تحت رحمةِ ما يفرضه “العرضُ والطّلب”. والشّاعرُ – ومثله المنشدون وخطباء المنابر – حينما يكون كذلك؛ فإنّه يُصبح شبيها بالعُلبِ الاستهلاكيّة سهلةِ الاستخدام وسريعةِ انتهاءِ الصّلاحيّة، حيث تَحِدُّها وتُحدِّدُها الحاجاتُ المؤقتة، وتحكمها وتحكمُ عليها الأذواقُ المتبدّلة، وتسيطر عليها الأهواءُ المتحرّرةُ من القيمِ والمبادئ.

صقلَ “فخرُ أوالٍ” موهبتَه الشّعريّةَ مثل حدّادٍ ماهر. كان يعرفُ كيف يطرقُ على الحَديدِ وهو سَاخن. فيضانُ الشّعرِ مثلُ بركانٍ هَادر. من غير مَعانٍ تتدّفقُ مثل الحِممِ فإنّ شيئا آخر غيرَ الشّعرِ يكون أمامنا. هذا الفيضانُ، لدى الحدّاد، تأسّسَ بمنظومةٍ فكريّة تتصّلُ بالمفكّر محمد باقر الصّدر، وتتوزّع فيه الامتداداتُ التي شكّلتها مدرسةُ هذا المفكّر الذي تميّز بالتّجديدِ والمعاصرة والنّضالِ من أجل الحقوق. تشرّب الحدّادُ من هذه المدرسة، والتحمَ فيها مثل مُريدٍ اهتدى إلى السرِّ العظيم. كان الحدّادُ شاعرا تجسّدَ في سيرته، قبل كلماتهِ؛ هذا المقامُ الفكريّ الرّفيع، وبسببِ ذلك كان الرّاحلُ موزونا في أقوالهِ وأفعالهِ، بلا زحافٍ أو عِلَل.

نعته إدارةُ الأوقافِ الجعفريّة، ومآتمُ البحرين ومجالسُها، وطُبِعَ خبرُ الرّحيلِ في الصّحفِ الرّسميّة وفي مواقع التّواصل الاجتماعي التي سجّلت أعلى تِرنْد باسم الرّاحل. إذن غزى القلوبَ كلّها، وكان الحِدادُ في كلّ مكانٍ تأكيدا على أنّ الحدثَ أحدثَ ألما وخسارة في كلّ خارطةِ الوطن. اتّشحَ بالحزنِ جمهورٌ عريضٌ من العلماءِ والمنشدين والمواطنين، من أجيالٍ وانتماءاتٍ مختلفة. رثاه الأصدقاءُ من السنّةِ والشّيعة. سجّلَ المكلومون حجْمَ الخساراتِ برحيلِ أبرز صانعٍ للمراثي. أعادَ البحرينيّون، بعد رحيله، روايةَ ذاكرتهم الموكبيّة، والدّينيّة، والوطنيّة، حيث “لا شيعيّةُ لا سُنيّةُ.. أخوانا نبقى للحشرِ/ فالزّلاقيُّ والحدّي.. مثل البِلادي والسّتري“.

كان الحدّادُ حادّا في قوْل الحقّ الذي يعتقده، ولكنّها حدّةٌ مصبوغةٌ بنسائمِ صلاةِ الفجر وهدْأتها. صاحِبُ “الحزن المعشوق” كان بارعا في أنْ يقولَ رأيه من غير أنْ يبترَ أخلاقا، أو يكسرَ قيما، أو يسقط في وحْل التّصارعِ والكبرياء. وعلى هذا الوزن؛ لم يكن غازي الحدّاد شاعرا ماهرا، أو عاشقا لأهل البيت، أو مجدّدا في قاموسِ العقيدة، كان ذلك كلّه مع روحٍ من فكرٍ متين، وحضورٍ محبّ للجميعِ، وللوطن.