في الاتجاهاتِ الأكثر تعبيرا عن التّميّز والرّيادة؛ كانت الرّاحلة حصّة عبدالله الخميري (أعلِن عن وفاتها في ٩ يونيو ٢٠٢١م) من أوائلِ النّساء اللاتي التحقنَ بالدّراسةِ الجامعيّة في القاهرة. في منتصف الخمسينيّات من القرن العشرين؛ سيكونُ على الخميري أن تتمركزَ في صُلب المعادلاتِ التي تبلورت في تلك الفترة، على الصّعيدِ الوطني والقومي والنهضوي. المرأةُ التي كانت منخرطةً في العمل النّسوي والمدنيّ؛ ستجد نفسَها في قاهرةِ الخمسينيّات أمام مشهدٍ مفتوح على كلّ الآفاق. ستعود الخميري إلى بلادها وهي محمّلةٌ بمسؤوليّاتٍ إضافيّة، ستجعلها مع الوقت في قائمةِ رائداتِ العمل الوطني والنّسوي في البحرين، وكما ستشهدُ على ذلك الأجيالُ التي تخرّجت على يديها منذ منتصف السّتينيات.

آمنت الخميري بأنّ التّعليمَ هو مفتاحُ المواطنةِ والمساواة، وعملت على أن يكون التّعليمُ للجميع، دون تمييز أو تفاوت. فعلت ذلك مبكّرا، وهي تزورُ – برفقة أشباهها من الرّائدات – قرى البحرين وفرجانها، وتتنقّلُ بين تجمّعات النّساء، وعلى صفيح حقبةِ السّتينيات والسّبعينات التي شكّلت المختبرَ الأبرز في صناعةِ الوعي العام في البلاد، والذي سيكونُ أثره ممتدا في العقودِ اللاحقة.

بابتسامتها التي تتطايرُ من ملامحها البهيجة، وبنشاطها الدؤوب الذي يتسرّبُ في هدوءٍ طريّ؛ كانت الخميري تصبغُ لمساتها الواضحة في الحركةِ الدّيمقراطيّة، والوطنيّة، والنّسائيّة، والحقوقيّة، عقدا بعد آخر. كانت تحضرُ بين الجموع من غير مزاحمةٍ، وتشجّعُ كلّ الطّاقاتِ بلا ترفّع أو أسْتذة، وتكتبُ اسمَها في كلّ مشروع وطنيّ من غير أن تذوبَ في الإنجازاتِ الأولى، أو يأسرها الانتماءُ إلى الجيلِ المؤسِّس. على هذا النّحو، كان إصرارُها في جمْع الكلمةِ على سَواء، وتوحيدِ صفوف الوطن على الخيرِ والبناء. لم يتأرجح سيْرُها ولا مسارُها، رغم تغيّراتِ الزّمن، واختلافِ الموازين، وتبدّلِ الأحوال. ظلّ مؤشرُها موجّها إلى كلّ ما هو نبيلٌ، وإلى كلّ ما فيه نماءٌ وسموٌّ على الصّغائر والظّروفِ الصّعبة.

يعرفُ سرَّها المكنونَ الأقربون والأبعدون، من المنامة إلى لندن، ولكنّ مكنونها الآسرَ سيكونُ شعاعاً لا يحجبه شيءٌ حينما يُقدَّر لها أن تحفرَ اسمَها في فترة التّسعينيّات، حيث المنعرجُ الجديدُ الذي اجتازته البحرينُ في نضالها الوطنيّ. سجّلت الخميريّ توقيعَها على العريضة النخبويّة (١٩٩٢) والشّعبيّة (١٩٩٤) التي دعت إلى عودة الحياة الدّيمقراطيّة في البلاد. كان توقيعها وقْعا من ذاتها الحرّة، وليس مجرّد التحاق في الشّعارات والقوائم. أكّدت ذلك حينما اخترقت، مع رفيقاتها، جدارَ الخوف بجرأةٍ لافتة، وأصدرن العريضة النسائيّة (١٩٩٥) التي دانت العنفَ، ودعت إلى الحرّيات العامّة، وعودة العمل بالدّستور. ستدفع الخميري  -ورفيقات أخريات – ضريبة الانحياز للوطن، وسيكون فصْلها من منصبها الرّفيع بوزارة التّربية؛ علامةً أخرى مضيئة في تاريخها النيّر.

بالنسبة للخميري، فإنّ جُهدها الوطنيّ والديمقراطيّ هو مسعى مشدود، قدر المستطاع، لتبادلِ المعرفةِ والعرفان، مع الوطنِ والإنسان. هو تبادلٌ، تقولُ الخميري، مستمرٌّ، كما هو “التّعليم المستمر” الذي أرادتُه العلامة الأثيرة في تاريخها الوطنيّ. ولأنّ قصْدها في ذلك كان نقيّا وإنسانيّا، ولأنّها فضّلت الاقتصادَ في الظّهور والتّباهي بالمنجز؛ فلم يكن غريبا أنّها، وفي العام ٢٠٠١م، كانت من المؤسّسين للجمعيّة البحرينيّة لحقوق الإنسان، الجمعيّة الحقوقيّة المستقلّة الأولى في ذلك التّاريخ.

لا شيء يزيدُ على ألم رحيل الخميري، أكثر من الوجوم الذي عادَ يجثمُ على هذه البلاد. وجومٌ “كورونيّ” خطفَ الخميري قبل أن يُقدِّمَ الوطنُ بعضَ الحقّ الذي تستحقّه “الأستاذةُ الفاضلةُ.. التي خدمت وطنها بقلبٍ محبّ وعطاءٍ كبير“، كما يقول وزير الخارجيّة السّابق خالد بن أحمد. لاشك، كما يقول عبدالنبي العكريّ، بأنّ الخميري دفعت “ثمنا غاليا” بسبب نضالها، ولكن ذلك ليس غريبا على الخميري التي جمعت “خصالَ شعب البحرين“، كما يؤبّنها إبراهيم شريف. لقد كانت الرّاحلة، بتعبير منصور الجمري، “شخصيّةً مبدئيّة“، وهي لذلك لا يُزعجها أن تخسرَ متاعا زائلا، في سبيلِ وطنٍ لا يرجفُ فيه الأمل.