في أكثر من محطّة ومكان؛ من غير اليسير الوقوف على نهاياتٍ قطعيّة/ نهائية للدكتور منصور الجمري (مواليد البحرين ١٧ ديسمبر ١٩٦١م). قصصُ المحطّات الأخيرة – من وجهةِ حياة الجمري- لا ينبغي أن تُغري المرء بالهرولةِ من أجلِ إفراغ الصّناديق وإصدار الأحكام النهائية، وكأن الحياة باتت على وشك النهاية، وأن محصّلة العُمر أصبحت جاهزة للتّرويج على أنها “الحصاد الأخير“. ليس هناك، في الحقيقةِ؛ من مدى نهائيّ يمكن الوقوف عنده، وتحديدا حينما يتعلق الأمر بالتّجريبِ، هذا التجريب الذي يعني – بحسب الجمري – أن نعتبر الحياة دراما مفعمة تستحق الكفاح. إنّ الحياة ليس لها خطّ نهايةٍ منظور، لنترقّبه على مَهْلٍ أو عَجلة. والحياةُ بهذا المفهوم الذي تقدّمه تجربة الجمري؛ تعني ضرورة أن نتحسّس، كلّ مرّة، المحطّات الرّاهنة، من غير الاحتباس فيها، على أن تتوجّه الأعين والعقول نحو المستقبل، الغد، واليوم الجديد الآتي. هذه إحدى خلاصات الجمري ومحفّزاته.

سيمياء النّجف تبدو محفورة في “عيون” الجمري، أي في كلّ رؤاه، ومرئياته، ومرويّاته. من هذه المدينة؛ تشكّلت أغلب خطوط التحوّلاتِ التي لا تزال تدبّ فينا، جذبا وطردا، وهي المدينة/المحطة التي عبرَ منها الذين غيّروا خرائط حياتنا الكثيرة، وحتّى اليوم. سرُّ هذه المدينة المقدّسة؛ هو أنّها تُتيح فرصَ الالتقاء بالجميع، وتوفّر أكثر من خيارٍ واختلاف، ومن الممكن أن تنمو فيها بداياتٌ تؤولُ، فيما بعد، إلى نهاياتٍ أخرى: النهايات المؤقتة تحديدا. علوم الشّريعة، المرجعيّة الدّينيّة، حركات التّغيير والإصلاح، صراعُ الماضي مع الحاضر والمستقبل، حروبُ الذات والآخر، تجاذباتُ الهويّة والسّيطرات الخارجيّة، التناظرُ والتعارضُ بين الموروثِ والحداثة، الجغرافيا المفتوحة والتاريخُ المُسيَّج. كلّ ذلك يتكثف في الجمري: في الاندفاع وفي الإحجام. يشبه الجمري مدينة النجف، هذه المدينة التي لا تنام، وليس المنامة بالطبع، أو بني جمرة حتما، ولا لندن بكلّ الأحوال. النجفُ تبدو “ذكريات متناثرة” في رواية الجمري، ولكنها ثاوية فيه إلى حدودٍ غير محدودة.

الانفتاح الذي يتميّز به الجمري هو رفيقُ مكانِ ولادته، بني جمرة. تغيّرُ الأمكنة لا يعني تغيّر الأنسجة. ولكن مكانَ الظهور الأوّل؛ يصنع التكوينَ الأطولَ أُنْسَا، والأوسع فسحةً، ولو ذهب المرء “خارج المكان“. هذه الحالُ، تطفو على الذين تغلي فيهم الأمكنة، والرّغبةُ في تحويلها، أو التحوّل عنها مرارا، ثم العودة إليها تكرارا. مغادراتُ الجمري وتنقّلاته؛ تعود في الغالبِ إلى مكانِ ظهوره الأوّل، البحرين. يدفعُه في ذلك رسوخُ الاعتقاد بأنّ هذا المكان يستحق الأفضل. هو مكان مخبوءٌ بالثرواتِ غير المكتشفة، أو المهْمَلة. السّياحة الدّاخليّة التي يقوم بها الجمري في بلده البحرين – قبل كورونا – هي إشارة على المعاني المتحاورة مع الأمكنة. يريد من هذه السياحة أن يقول أشياء كثيرة: تثمينُ أصالة المكان لأجلِ الحثّ على التّجديد. الأُنسُ بحفريّات الأرضِ للتّشجيع على التسامح والقبول بالآخر. الاعتزازُ بآثار الأجداد للإيعاز بأن الأبناء والأحفادَ قادرون على صناعة الغد المشترك.

إتقانُ الجمري لعلم الهندسة، تصميما وحوكمةً؛ لم يكن محطة أخيرة. انشغاله بالحوار الإسلامي كان مشْغَلا مؤثرا، ومثيرا، ولكن “المهندس” لم ينشغل بتصميم نهايات فكره الديني ومنتجاته في الفضاء اللندني. إنما انشغاله -فترة من الزّمن- في “التّدريب” على الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والعلوم الإدارية.. كان “الخزّان المضغوط” و”المعدّات الحيويّة” التي نثرتها عليه مدينة النجف، وأعادته إلى مكان ولادته. الهندسة، بما هي تحويلُ الفراغ إلى مكان شاغر؛ كانت أكثر حضورا في فكر الجمري الرّامي لبناءِ الوطن، وإمداده بالعافيةِ اللازمة ومتطلبات العيش الكريم. نفهم من ذلك هذا الإصرار “الجمري” على لَحْم الوطن بالعصرِ وعلومه، وبالحياةِ وحقوقها.

كان من الطبيعي أن يكون مكان الجمري هو “الوسط”.. ليس فحسب في صحيفة “الوسط” التي تجلّى فيها الوجه الوسطي العابر للخنادق الضّيقة، ولكن أيضا في وسط الأمكنة التي أحبّها، وفي وسَطِ الأفكار والمواقفِ التي ظهرَ فيها الوالدُ الرّاحل بنجفيّته الصّافية، والآن يجتهد الابنُ الرحّالُ لكي يعيد توزيعها من بحيرة “الأماكن الوسطى“، وبتحفيز لا ينتهي من ذكرى إغلاق “الوسط” (٤ يونيو ٢٠١٧م)، وإلى أن تعود إلى الصّحافة ووسطها.