صادق الستري
كاتب من البحرين |

في بعض الأوقات، أو في كثير من الأحيان، عندما يسود الشعور بالفوضى وانفلات المشاعر؛ فإن هناك أهمية كبيرة لكي نعمل معا على توضيح الواضحات، أو التذكير بها بطريقة مختلفة. في زحمة كل ما يحصل من شدائد وصعاب؛ لا يلتفت الكثيرون إلى أن الشمس ساطعة، وأن أوراق الشجر لا تتحرك من تلقاء نفسها، بل من رياح هبّت من هنا أو هناك. تبدو أمور كثيرة وكأنها شديدة التعقيد، ولكن إعادة ترتيب الأوراق التي بعثرتها الحُجب والرياح؛ من الممكن أن يعين على رؤية أوضح، وعلى تحديد الطريق السليمة والأسرع.

– الواضحة الأولى:

البحرين ليست حالة استثنائية. ليست معزولة عن هذه المجرة. هي دولة من دول هذا العالم، تحكمها العلاقات الخارجية، وشبكة التفاعلات المعقدة التي لا تتوقف عن التغير والتحول والدوران، وعلى نطاق يدور في فلك السياسة الإقليمية والدولية، ثم سرعان ما يرتد إلى الداخل، وفي أشكال مختلفة وأنماط عديدة. وحين يريد أي واحد منا أن يفهم ما يجري في الداخل، وفي تفاصيل المشهد المحلي؛ فإن عليه أن يقرأ ما حوله، وأوسع من قدميه ومن مرمى عينيه، وعليه أن يجيد فهم هذه الموجات العاتية من التغيرات الجذرية التي يشهدها الخط الإقليمي والدولي، وعلى نحو يكاد أن يخرج عن كل الحدود المتوقعة، بحساباتنا المحدودة. تماما كما هي الحال مع المفاجآت الصارخة التي قلبت العالم رأسا على عقب مع جائحة كورونا. كم هي واضحة الانقلابات التي جرت علينا، على حين غرة، مع كورونا، وكم نحن غير مستوعبين حتى الآن لكل ما يحصل وسيحصل من وراء هذا الفيروس؟!

– الواضحة الثانية:

المجتمع السياسي والمعارضة والحكومة في البحرين؛ هم من عالم البشر، يجري عليهم ما يجري على البشر، من عواطف ومشاعر، وأفكار وتغيرات: “يسأله من في السماوات والأرض، كل يوم هو في شأن“. ومهما حصل من أحداث مؤسفة، ومن انتقالات غير متوقعة؛ فإن الجميع لا مفر له من التفكير وفق الطبيعة البشرية التي تحكم الجميع بإرادة من الله الخالق القدير. إننا بشر، ولسنا ملائكة، أو غير ذلك. الحكومة والمعارضة، الناس والنخب، الجميع محكومون بطبيعتهم البشرية، ولا يمكن لأحد أن يخرج من هذا الحكم المحتوم. هذه بديهة، وواضحة من الواضحات، إلا أننا جميعا ننسى أن نفكر بها أو نتحرك من خلالها حينما تشتد علينا الأمور، وتخرج عواطفنا وأفكارنا عن نطاق السيطرة، أي تدخل في النطاق البشري الطبيعي تحديدا، بما فيها من انفعال وشكوك وأوهام. إما أن نفكر في أنفسنا على أننا ملائكة، والآخر هو إبليس رجيم، أو نظن في أنفسنا وفي الآخرين الظنون التي لا يقوى عليها بشر وليست في وسع أحد؟!

– الواضحة الثالثة:

الحكومة في البحرين تكرر– يوما بعد آخر وبلغة أو بأخرى– ما يفيد أنه ما من خيار للوصول إلى مستوى الاستقرار؛ إلا من خلال تحقيق تقدم ديمقراطي في البلاد. وقد أكد ملك البلاد، كما ينقل الشيخ علي سلمان، بأن “تحقيق ملكية دستورية ديمقراطية هو ضرورة للاستقرار الحقيقي، والتنمية المستدامة” (انظر: “نضال من أجل المواطنة المتساوية: لقاءات الشيخ علي سلمان مع رموز الدولة في البحرين“، ص ٥. إصدار مركز البحرين للحوار والتسامح، ديسمبر ٢٠١٩م). قد يجادل البعض بشأن هذا الأمر، ولكن السؤال الجدلي الآخر، هو إلى أي مدى كان المجتمع السياسي، عموما، والمسؤولون المعنيون؛ يتحملون مسؤولية عدم تحويل تصريحات رموز الدولة الإيجابية؛ إلى واقع ملموس؟! من الممكن أن يسوق كل طرف الحجج والمبررات لاستمرار الأزمة، وإلقاء المسؤولية على الآخر، ولكن أليس من الغريب في الأمر، أن المنافسة التي جرت بين المتخاصمين كانت – في الغالب – على تحميل الآخر مسؤوليات الخطأ والتقصير، ولم نشهد – نحن البشر الخطائين – منافسة في تحمُّل بعضنا الآخر وتفهّمه ومناصحته بالكلمة الطيبة، وفي شجاعة تحمُّل مسؤولية الموقف مهما كانا صعبا على النفس؟! لا يوجد أحد يعتقد، في داخله ومع نفسه، على أنه على حق مطلق في أي شأن من شؤون السياسة، ولكن حينما يبدأ السجال والنقاش العلني يرمي الجميع على الآخرين سهام التخطئة والفشل والتراجع! أليست تلك “قسمة ضيزى“؟!

– الواضحة الرابعة:

إنّ ما حصل منذ ٢٠٠٢م وحتى اليوم على المستوى السياسي؛ يمكن أن يكون مجالا لنقاشات طويلة، تختلف فيها الآراء والمواقف، ولكن علينا في الوقت نفسه أن نتوقف، مليا، عند حقيقة أن العمل السياسي – في كل الأحوال – هو محاولات متكررة من أجل التغيير البناء، وهو ليس عمليات عبثية من الهدم والإثارة والصّراخ. نعم، ليس هناك من تغيير من غير شيء من الهدم، أو الإثارة، أو الصراخ الكثير. ولكن، علينا أن نعود إلى الدائرة الأولى: ماذا نريد تحديدا، وما الذي تتحمله البحرين، وما الذي يملكه -الجميع- من قدرة وطاقة على تحقيقه والمساهمة في إنجاحه؟ هناك تجاذب بين أطراف الأزمة، ومن الممكن أن يستمر إلى وقت طويل، وقد ينجح كل طرف في إضاعة الوقت، أو ترحيل اللحظات الحاسمة، أو تضييق الخناق على الآخر، أو إسكاته، أو شيطنته، ولكن في نهاية المطاف ليس في ذلك شيء من العمل السياسي، والنتيجة التي قد يصل إليها الجميع هو إضعاف الآخر، وربما إجباره على الدخول في خيارات معينة والقبول بها، ولكن حتما لن يُحسب ذلك في قائمة النجاح السياسي البناء، لأن سرعان ما ستنكسر الجرة مجددا، وتعود حليمة إلى عادتها القديمة. العمل السياسي هو نضال فكري، واجتهادات مستمرة لا تتوقف. هو عمل مضني في اختراق الحواجز، وفي القفز على المطبّات. العمل السياسي، باختصار، هو القدرة على إقناع الآخر، راضيا مرضيا، بالفكرة التي تُرضي الجميع، وتناسب كل الأطراف. والبحرينيون – لو أرادوا – هم قادرون على الإبداع وصناعة الجمال، وهم منجزون على الأرض، ولديهم من العقول النيّرة والقلوب الطّيبة ما يمكن أن يفتح المغاليق.

– الواضحة الخامسة:

هناك اختلاف في الشعارات والمشاعر، واختلاف على المطالب والخطابات. ولكن هذا ليس استثناء في البحرين، فهذا ما يحصل في كل العالم، وفي كل الأوقات. أي، هذا الاختلاف ليس هو المشكلة في حد ذاتها. المشكلة هي كيف ننظر إلى هذه المشكلة، وكيف نتعامل معها، وإلى أي مدى نحن من يأخذ بناصيتها بدل أن تأخذ هي بناصيتنا حتى نصبح جزء منها، أي جزء من المشكلة نفسها. يعرف السياسيون بأن الشعارات شيء، والحركة السياسية الفعلية شيء آخر. من الممكن أن يوظف السياسي البارع تموجات المشاعر الذي تختلط بالجماهير. إنّ الأزمات، التي تنفلت، من الطبيعي أن تصل إلى الذروة الشعورية، التي تتفجر فيها الهتافات الحادة والشعارات المشددة. هنا يأتي سؤال السياسي: كيف يمكن احتواء هذه الذروة، والنفاذ إليها، والعودة بها إلى المدى الطبيعي؟ السياسي لا يمكنه أن يصنع حراكا فعليا وتغييرا واقعيا من خلال مخزون الشعارات، ومن كتلة الهتافات. لماذا؟ لأن مخزون الشعارات، يبقى شعارات: أي انفجارات من المشاعر، وكتلة الهتافات تظل هتافات: أي انفعالات صوتية من الغضب.

ربما تكون هذه الواضحات؛ واضحات فعلا، وقد أكون سببا في تعقيدها والتلبيس عليها، وتحفيف درجة الوضوح فيها! ولكن، في الخلاصة، فإن أمّ الواضحات هي أن الجميع يرغب في وطن جميل، سعيد، ويحلم بأن يكون أهله وأحبابه وشعبه سعداء، يعيشون في أمن واستقرار وكرامة. لكن، هذه “الرغبة” وهذا “الحلم”، يحتاج إلى “إرادة” و”مبادرة”. هذه أم الواضحات الخمس.