- لتحميل الإصدار بصيغة بي دي إف: من هنا
التكامليّة الحيّة
رؤية العلامة السيد عبدالله الغريفي في المحافظة على التديّن الحقيقي في أوقات التحديّات
بسم الله الرحمن الرحيم
يهتمّ العلاّمة السيّد عبدالله الغريفي بالتّأكيد الدّائم على أهميّة امتلاك الحدودِ المعرفيّة الكفيلة بالإبقاءِ على شهر رمضان حيّا وفاعلا في حياةِ المسلم، بمعزل عن الظّروف المحيطة أو الطّوارئ والتحديّات المحسوبة وغير المحسوبة التي قد تفرضُ -أحيانا كثيرة- اختلافا في أساليبِ إحياء هذا الشّهر المبارك، كما هو الحال مع جائحةِ كورونا التي فرضت تحدّيا كبيرا، وخصوصا على المسلمين – وعلى كلّ المتدينين والمؤمنين بالعبادات الجماعيّة والطقوس الروحيّة.
تحديات التدين في الوقت الحاضر
في البداية من المفيدِ الإشارة إلى طبيعة التحدّيات التي تواجه موضوع “الإيمان العبادي” وممارسة التديّن في المجتمع المعاصر، المليء بالتعقيدات والإشكالات. فإذا كان الإيمانُ والتدينُ هو إعلانٌ داخليّ بالانتماء إلى قيم السّماء، وإلى الإله المتعالي، الممثّل لكلّ صفات الكمال والجمال؛ فإنّ المتديّن والمؤمن يجد العديدَ من التحدّيات وهو يعمل (يكدح) لأجل أن يعكسَ هذا الإيمان والتديّن في حياته اليوميّة. ولا شكّ أنّ التحدّيات موجودة في كلّ زمان ومكان، وهي (أي هذه التحدّيات) ترتبط بفكرةِ الابتلاء والاختبار، وهذه الفكرة هي جزءٌ لا يتجزأ من النّظام العام للأديان وعقيدة اليوم الآخر. إلا أنّ ذلك لا يعني إسقاط واجب التمثيل (التجسيد) السّليم للتديّن والإيمان في الحياةِ الدُّنيا، فالبلاء والاختبار الذي يواجه المتدين يُراد منه إثارة الحماس (التحدّي الإيجابي) لديه من أجل الاجتهاد الموسّع في سبيلِ تمثيل التديّن والإيمان وتطبيقه في الحياة بأفضل ما يمكن وأحسنه، مهما كان نوع التحدّي أو مستوى البلاء الذي يواجهه.
مصاعب أنماط الحياة المعاصرة
في المقابل، ربّما يكون المجتمع المعاصر هو الأكثر تعقيدا في حياة البشر على مرّ التاريخ، ليس فقط بسبب التحدّي الفكري والثقافي الذي يواجهه أصلُ التديّن والإيمان، في ظل كثرة الفلسفات والأفكار العديدة غير الإيمانية والأسئلة الفكريّة التي تحاول أن تنقضَ قواعدَ الإيمان والروحانيّات. ولكن إضافة إلى ذلك، فإنّ التحدّي الأصعب يأتي من المصاعب التي تفرضها أنماطُ الحياة المعاصرة، بما قد تدفع المتديّن – قسرا في كثير من الأحيان – إلى الانْشغال أو الاشْتغال بالأمور اليوميّة، مع ما يصاحبها من مشاعر مليئة بالاضطراب والقلق والتّوتر وعدم الاستقرار الدّاخلي. في مثل هذه الأجواء، يجد المتديّن في طريقه أكثر من تحدٍّ في شأنِ المحافظةِ على القيم والمبادئ الدّينيّة والروحيّة، ما قد يوقعه في مشكلةِ التّناقض بين ما ينتمي إليه من قيم وبين ما يمارسه من سلوكيّاتٍ في الخارج. ولعلّ التهافت الذي يعاني منه الكثيرُ من المتديّنين في العصر الراهن يعود إلى وقوعهم في إشكاليّة “الازدواجية” بين الإيمان والواقع، أي بين الاعتقاد الفكري (جوهر الدّين) والخارج المعاش (شكل التديّن) وخاصة مع قلّة أو ضعف فاعليّة العمليّات التطويريّة – الفكريّة والرّوحيّة والعمليّة – التي تُتاح للمتديّن لمساعدته في المواءمةِ أو التّوازن أو الانسجام بين تديّنه ومتطلبات الواقع الخارجي.
دور القيادات الدينية والروحية
في هذه الحال، يأتي دور القيادات الدّينية والروحيّة في أداء مهامّ التوجيه السّليم، والتطوير الإيجابي، والموعظة الحسنة، التي تعين المتدين على الاستمرار في تديّنه بشكل سليم، وهادئ، ومن غير الوقوع في “مقالب” الحياة المضطربة. وهذه المهام تعتبر من صميم الواجبات الملقاة على عاتق القيادات الدّينية، بما يمثلونه من موقع مؤثر، وإدراك عميق، وشعور مخلص بالمسؤولية تجاه الدين والمتدينين.
شهر رمضان في زمن كورونا
في هذا العام، يجيء شهر رمضان، الشّهر المقدّس بالنسبة للمسلمين؛ في ظروفٍ غير اعتياديّة بسبب جائحة كورونا، ما تسبّب في تعطيل أو تغيير العديد من السّلوكيات والأنظمة العباديّة المرتبطة بإحياء هذا الشّهر الكريم، بما في ذلك الطقوس العباديّة الأصيلة في المساجد والجوامع وفي إقامة التجمُّعات والمناسبات والفعاليات الاجتماعية والروحية المعزّزة لقيم الشّهر الفضيل. ومن الواضح أنّ ذلك – وللوهلةِ الأولى – أوقعَ المسلم في حيرةٍ بشأن طُرق إحياء قيم الشّهر المقدّس، وكيفيّة الإبقاء على العلاقة الرّوحيّة والعمليّة مع معاني هذا الشّهر. وفي حين أن الإحياءات والمواعظ عبر الفضاء الإلكتروني؛ قد تُسْعف الصائمين على الشّعور بجوانبِ من أجواء هذا الشّهر، إلا أنها غير قادرة دائما على إتمام السّلوك العبادي الكامل الخاص بشهر رمضان. من هذا الجانب، تبرز أهمية توافر الإرشاد الديني العميق الذي يعالج هذه المسألة، ويحافظ على التدين الصّحيح والفعل الإيماني السّليم في أوقات الأزمات العاصفة.
السيد الغريفي: مكونات البرنامج الرمضاني
قدّم العلامة السّيد الغريفي في هذا العام توجيهات هامة تعين المتدينين على برمجة أنفسهم في شهر رمضان، وسط التحديات المتعدّدة المرتبطة بكورونا.
في أول شهر رمضان، وضع السّيد الغريفي برنامجا شاملا خاصّا بشهر رمضان، ويتألف من سبعة مكونات، تستوعب كلّ متطلبات دعم الفعل العبادي والروحي المطلوب في هذا الشّهر، بما يمثل الحدود الأساسيّة التي تمنح المتدين المستوى المأمول من الإشباع الدّيني والفاعليّة الروحيّة والامتلاء بالقيم الإيمانية الخاصّة بشهر رمضان. وتشمل المكونات ما يلي:
- المكون العبادي:
ويتضمن: الفرائض الخمس، الصّلوات المندوبة، الإكثار من تلاوة القرآن، والتزوّد من الأدعية الرمضانية والإكثار من الاستغفار.
- المكون الروحي:
ويشمل ممارسة الإعداد الروحي، وتنقية القلب من “التلوثات”، والتعبئة الروحيّة عبر العبادات والمواعظ، وتحصين النفس روحيّا من خلال الابتعاد عن الأجواء الفاسدة.
- المكون الأخلاقي:
وهذا المكوّن يقوم على المحاسبة الأخلاقيّة باستمرار، وقراءة كتب الأخلاق والدروس التي تُعنى بتقويم الأخلاق.
- المكون السلوكي:
ويتركّز هذا المكوّن عباديّا على مفهوم تجديد التوبة، كل يوم، والحذر من المخالفات الشرعيّة.
- المكون الثقافي:
ويتركّز على بناء الوعي الدّيني من خلال: القراءة، السؤال، والدروس الدّينيّة المختلفة.
- المكون الاجتماعي:
ويشمل صلة الأرحام، وتصفية الخلافات وتطهير القلوب من الشحناء، إضافة إلى تقديم المساعدات وقضاء حوائج الآخرين.
- المراجعة والمحاسبة:
وبحسب العلامة الغريفي، فإن هذا المكوّن من أهم مكونات البرنامج الرمضاني، حيث ينبغي أن تكون هناك جلسة مراجعة ومحاسبة لتقوية الاستعدادات المتصلة بالمكونات المذكورة.
السيد الغريفي: ثلاثية نجاح الموسم الرمضاني
وفي حين أن البرنامج أعلاه يرتبط مباشرة بالأداء المتوقّع من المتدين في شهر رمضان، في بُعده الفردي والاجتماعي؛ فقد قدّم السيد الغريفي كذلك إطارا تقييميا لنجاح الموسم الرمضاني، وسجّل فيه ثلاثة عناصر أساسية، وهي:
- وعي رمضاني (العقل)
- روحانية رمضانية (القلب)
- تقوى رمضانية (السلوك)
ويشير الوعي الرمضاني إلى الأساس المفاهيمي لشهر رمضان (العقل)، وهو يتّصل بالبناء الفكري لدى المتديّن الصائم، بما يعني مدى صحّة فهمه “لدلالات الصّوم، ومعطياته الأصيلة، ومضامينه البصيرة، وتطبيقاته السّليمة”، بحسب ما يذكر السيد الغريفي، الذي يؤكد بأنّ مستوى التعاطي مع الموسم الرمضاني يرتبط بمستوى الوعي الرمضاني، وبعناصره المذكورة.
وفي الوقت الذي يمثّل الوعي الرمضاني الجانبَ المفاهيمي والفكري، فإنّ الروحانيّة الرمضانية ترتبط بالجانب العميق لشهر رمضان (القلب)، بما فيه من “وهج رباني، ونفحات إيمانية، وفيوضات مباركة“، بحسب السيد الغريفي الذي يشدّد على أنّ غياب “هذه الإشراقات الروحية يعطي الموسم الرمضاني فتورا وخمولا ونضوبا وخواء وركودا“، وهي – كما يتضح – إحدى التحديات التي يواجهها الموسم الرمضاني في هذا الزمن، وهو ما زاد مع التحدي المضاعف الذي أضافه وباء كورونا هذا العام.
ويكتمل مؤشر نجاح الموسم الرمضاني بالعنصر الثالث الذي يطلق عليه السيد الغريفي عنوان “التقوى الرمضانية“. ويوضح السيد الغريفي بأنّ هذا العنوان يتصل بالجانب العملي على نحو مباشر، بما للموسم الرمضاني من “عطاءات فاعلة، ومنتجات متحركة، ومؤثرات عملية“. ويحرص السيد الغريفي على التذكير على أنّ هذا العنصر الخارجي (التقوى الرمضانية) هو معيار قبول أعمال المتدين في شهر رمضان، لأن غياب هذه التقوى يجعل من الوعي الرمضاني عبارة عن مفاهيم عقليّة مجردة، كما تصبح الأعمال الروحانية بدون هذه التقوى العمليّة مجرد طقوس ميكانيكية. أما حين يجتمع الوعي (العقل) والروحانية (القلب) مع التقوى (السلوك)؛ فإن معادلة النّجاح تكتمل عناصرها، ليس فقط بالنسبة لموسم شهر رمضان، ولكن في خصوص كلّ حياة المتدين ومواسمه المختلفة.
التكامليّة الحيّة
ومن الممكن الاستنتاج بأن رؤية السيد الغريفي في المحافظة على نظام التدين في أوقات التحديات، تقوم على فكرة “التكاملية الحية“، أي استحضار العناصر المختلفة (المتكاملة) التي تقوّي من نظام التدين، وذلك من خلال تشديد قوّة الإيمان من جانب، ومن تقويمه وتطويره من جانب آخر. وتعتبر “التكاملية الحية” نموذجا للتدين الفاعل والحي الذي يُتيح للتديّن والإيمان أن يواصل حضوره وتأثيره في مختلف الظروف والأوقات، وعلى نحو تتجدّد فيه القيم العليا للدين وتتنامى في بناء حياة الإنسان بانسجام، واعتدال، وإخلاص صادق.