لتحميل الإصدار كاملا بصيغة (بي دي إف): من هنا

 

قواعد أخلاقيّة في سلوك الإنسان المسلم

بسم الله الرّحمن الرّحيم

في شهر رمضان المبارك – على وجه الخصوص – تتكثّف المعاني الأخلاقية والروحيّة في حياة الإنسان المسلم، بما يصاحبُ هذا الشّهر المقدَّس من قيم ومفاهيم ناظِمة لسلوكِ الصّائم، على المستوى الفردي والاجتماعي.

ولكي تأخذ هذه الرّحلة السنويّة مسارها المطلوب؛ فإن هناك جملةً من القواعد التي لابدّ أن تنسج كلّ المفاهيم والقيم التي يتعاطى معها المسلم، لتكون هذه المفاهيم والقيم محكومة بهذه القواعد، وتتحرّك وفق مقتضاها، وعلى النّحو الذي يحقّق التّغيير الإيجابيّ المأمول من هذه الرّحلة العباديّة الخاصّة في كلّ عام، ولتكون بعد ذلك الأساس لكلّ حياة المسلم، في كلّ الأزمان.

وفيما يلي أهم هذه القواعد الأخلاقيّة:

1- النيّة والقصد

قال تعالى في القرآن الكريم: “وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ”. وقال تعالى: “وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا”.

تمثل النيّة في العمل العبادي والرّوحي ركنا أساسيّا من ناحيةِ تقويم العمل وتطويره. ويمكن أن يُستفاد ذلك من رواية الإمام زين العابدين (ع) في قوله: “لا عمل إلا بنيّة”، إلى جانبٍ هذا المعنى الذي يُعطى النيّة مركزيّة في السّلوك البشري، بما يعبِّر عن الهدف العام الكليّ المنشود من العمل وعموم السّلوك البشريّ في الحياة، والذي يتّصل – في خاتمةِ المطاف – بأملِ تحقيقِ الرّضا والقبول الإلهي.

إنّ إطلاقَ النيّة وتحقيقها على المستوى القَبَلي (القَلْبي)؛ لابدّ أنْ يقترن بعمليّةٍ مواكبة وملازِمة على مستوى المسار البَعْدي (السّلوكي)، ومن غير ذلك فإنّ العمليّة ستُصاب بالخلل، وستنبع من ذلك كلّ يعيب العمل العبادي من أخطاء وتهافت وتناقض. ومن هنا يمكن القول بأنّ النيّة، بما هي هدفٌ عام وكلّي مرتبط بالله تعالى؛ فإنّ القصدَ يمثّل المسارَ السّلوكي المتصوّر (المأمول) لتحقيقِ هذا الهدف. ومن الطّبيعي، نتيجة ذلك، أن تتعدّد المقاصد، بتعدّد اجتهادات العمل وأشكال التّطبيق الخارجي، وبتنوّع المصالح في الخارج، في حين أنّ النيّة تبقى واحدةً وثابتة، لأنها مرتبطة بالثّابتِ غير المتحوّل، الله تعالى. وقد رُوي عن رسولَ اللَّه (ص) أنّه قال: “إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى”.

ولا تنفصل النّية عن القصد، بل إنّ النيّة هي الحاكمة على كلّ مقاصد الأفعال والأعمال، وهي النّاظمة والمقوّمة لها. فإذا كانت النيّة مرتبطة بالله تعالى – بكلّ ما يمثّله من صفات الكمال والجلال – فإنّ القصد السّلوكي لابد أنْ يكون إلهيّا، أي منسجما مع صفاته الكمالية والجلالية.

المستفاد من ذلك، أنّ المسلم في شهر رمضان – وغيره من الأيام – وهو يبني نيّته في القُربى إلى الله؛ فإنّه يحقّق من صومه عملا صالحا، إلا أنّ هذا الصّلاح يكتملُ بعد تأكيده وتثبيته في السّلوك الخارجي، أي في المقاصد الخارجيّة التي تتطابقُ مع صلاح النيّة وإخلاصها، ويكون ذلك بتحقيقِ خيرٍ عام أو خاص، أو النّأي عن شرّ عام أو خاص. وحين تتحقّق هذه المطابَقة في المقاصد الخارجية – السلوك العام – فإنّ صفةً أخرى تُضاف إلى العمل الصّالح (النية السّليمة)، وهي صفة العمل النافع (السّلوك السليم). ويمكن الاستنتاج من ذلك، بأنّ النية – لكونها عملا قلبيا – فإن تقويمها وصيانتها يكون من خلال المقصد الخارجي المتمثل في السلوك، لكونه القابل للحكم والتقييم.

عن أنَس بن مالك أن رسولَ الله (ص) كان يقول: «اللَّهُمَّ انْفَعْنِي بِمَا عَلَّمْتَنِي وَعَلِّمْنِي مَا يَنْفَعُنِي وَارْزُقْنِي عِلْمًا تَنْفَعُنِي بِهِ»

2- قاعدة الوسطيّة

قال الله تعالى في القرآن الكريم: “وَوَضَعَ الْمِيزَانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ”.

وجاء في القرآن الكريم أيضا: “لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ”.

تعتبر الوسطيّة قاعدةً مركزيّة في الحياة، وهي تمثّل عنوان “التّوازن العادِل” الذي ينبغي أن يحافظ عليه الإنسانُ في كلّ الأمور والأشياء، الظّاهر منها والباطن. وتتمثل أهميّة هذه القاعدة في كونها المعيار الذي يحقق التّطابق الإنساني والكوني بين النيّة والمقصد.

إنّ الوسطيّة بهذا المفهوم الأخلاقي؛ تستند إلى حقيقتين واقعتين:

– الأولى: التداخلات التي تواجه الإنسان في هذه الحياة، بما فيها من صراعاتٍ وتناقضات وظروف متضاربة.

– الثانية: ما هو مُوْدع في الإنسان من تكوين مركّب يتجاذبه باستمرار على مستوى الغرائز والمقاصد والرّغبات (الفجور والتّقوى).

على المستوى العملي، فإنّ المنهج السّليم الذي يحقّق هذه الوسطيّة الأخلاقيّة هو حين يكون هناك التزامٌ بميزان الخير بين شرّين، أو الفضيلة بين رذيلتين. وقد ذكر علماء الأخلاق بأن الرّذيلة هي “إما إفراط أو تفريط، والفضيلة وسط بين رذيلتين”. وبحسب ما يذهب إليه صاحب كتاب “جامع السعادات”، المولى محمد مهدي النراقي، فإنّ الفضيلة الكاملة هي “الوسط الحقيقيُّ”.

إنّ كلّ الأعمال التي يقصدها الإنسان لتحقيق هدفه ونيّته في القُربى إلى الله تعالى؛ قد تكون معرّضة على نحو دائم لسلسلةٍ من التجاذب والتنافر بين الصعود أو الهبوط، من قبيل: الشّدة أو الضّعف، الإجْهاد أو الكسل، المبالغة أو التساهل.. إلى آخره. والالتزام بالوسطيّة في هذه المشاعر والسّلوكيّات؛ هو ذاته ما يُعرَف بمكارم الأخلاق، فالقوّة هي التزام بين الشدّة والضّعف، والاجتهاد هو سعيٌ بين الإجهاد والكسل.. إلى آخر ذلك.

ومن غير هذه الوسطيّة؛ فإن النتائج ستكون، حتما، سلبيّة وعلى عكس المتوقّع، ويعبّر عن ذلك في قوله تعالى وهو يشير إلى مثالٍ من أمثلة الوسطيّة في الإنفاق، حيث جاء: “وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا”. وهذا النظام الوسطي، المذكور في الآية، يمكن أن يسري في كلّ السّلوكيّات والموضوعات، لأنّه نظام أخلاقيّ عام ينطبق في موضوع الإنفاق وفي كلّ الموضوعات الأخرى التي تتطلب وسطيّة في الموقف.

يقول الله تعالى: ” وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطا

3- الوعظ والإرشاد الإيجابي

إنّ الموعظة والإرشاد هي فعلٌ أخلاقي وفي صميم العلاقة الخيّرة بين البشر، ولكن ذلك ينبغي أن يكون محكوما بقانون التطابق بين النية والقصد من جهة، وأخلاقيّة التوازن من جهةٍ أخرى. ولكي يتحقّق ذلك؛ فإنّ عملية الوعظ لابد أن تخاطب السّلوك ودوافعه الحقيقيّة، وليس النّوايا – التي لا يعلمها إلا الله لكونها قلبيّة وخفيّة – وكذلك يخفق الوعظ حين يكون ملتبسا بمحاكمة الظواهر البسيطة، التي قد لا تعبّر عن حقيقة دوافع السّلوك، ولا تعكس ما وراء السّلوك من أسبابٍ كامنة أو ضغوط قاهرة على المرء.

حين يكون الواعظ مدركا لوظيفة الوعظ الحقيقيّة؛ فإنّ أملَه الكبير يتكرّس حول إحداثُ التأثير الإيجابي في حياة الآخرين، وهو يتسلّح في ذلك بما يحمله من يقين خالص (ينتج بعد تحقّق القاعدة الأولى والثانية) بأنّه بالإمكان إحداث هذا التأثير، وأنّ الكدح نحو الله تعالى هو بإنجاز هذا التأثير الحَسن وبأطيب المواعظ وأحسنها، وليس الذّهاب بشدّةٍ إلى إحداث التّغيير السّريع، وهو إضافة إلى كونه خلاف طبيعة الوعظ والإرشاد، فإنّ نتائجه عادة ما تكون سلبيّة أو مؤقتة.
ومن ذلك، فإنّ “الموعظة الحسنة” تكون كذلك؛ حين تأخذ بالاعتبار ما وراء السّلوك الخاطئ (المُنكر) المُراد التأثير عليه، والنّظر إلى هذا السّلوك من خلال ما يقف وراءه من دوافع وأسباب، ما يتطلّب تأنّيا وتمهّلا وتفهّما وروحا منفتحة وعارفة. وبقدر النّجاح في استيعابِ هذه الدّوافع والأسباب؛ يكون النجاح في إحداث التّأثير، والتدرُّج فيه إلى مستوى التغيير، على ألا يكون التّغيير أمرا أو فرْضا أو إكراها، بل الحرص على الاجتهاد الموسَّع ليكون التغيير فعلا إراديّا ينبعُ من صاحب الشأن، وذلك باستعمال الواعظ كلّ السّبل والطرق المناسبة في إحداث التأثير الإيجابي، وخلق الرّوح التغييريّة من داخل الأنفس. يقول الله تعالي: “ولا يغيّر الله ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم”.

عندما يفقد الوعظ والإرشاد قانونَ (النيّة والقصد)، ويختلّ معه ميزانُ الوسيطة؛ فإن الوعظ إمّا أن يتحوّل إلى عمل خطابي مجرّد لا يتضمن مخطّطا للتأثير وتحقيق الوظيفة الفعلية للوعظ، أو يصبح عملا عكسيّا بتحوّله إلى وعيد وإنذار وتخويف وتغليظ وعنفٍ وشدة. وحينها، لا يفقد الوعظ مضمونه الأخلاقي فقط، ولكنه أيضا يفقد أهم وظائفه وهو إحداث التأثير البنّاء. إنّ إحداث هذا التأثير يستدعي وعيا لدوافع ما يقترفه المرءُ من خطأ ومنكر، وهو يتطلب أيضا ابتكارات متعدّدة في وسائل التأثير نحو الأفضل.

قال النبي الأكرم (ص): “مَن أمرَ بمعروفٍ فليكنْ أمرُه ذلك بمعروفٍ”.