بقلم: علي باقر|

 

توحّد البحرينيون أمام الموت من جديد. يذكرنا ذلك أن الموت ليس أمرا للحزن فقط، ولكنه محنة تقدم فرصا للتغيير. الموت هو “منحة” أخرى من أجل الاستيقاظ، وإعادة التركيز، وسحب الرأس إلى الوراء لاسترجاع الماضي، والبدء في المحاسبة.

الفنان علي الغرير كان في حياته، ولا شك، سببا للفرح والبهجة، ولجميع البحرينيين. لكنه لم يكن رمزا وطنيا، ولا زعيما سياسيا، ولا مسؤولا كبيرا. كان فنانا تلقائيا، قريبا من الناس، يهمّه تقديم البسمة غير المزحومة بالكلفة ولا التكلفة. بدا في فنّه، وفي حياته مع الناس، وكأنه جاذبا لكل الخير المكنون في الجميع. هل هذا يكفي لأن يصبح أيقونة بعد رحيله؟

بعيدا عن التأمل والفكر الفلسفي، فالموت ولا شك له وقْع خاص على البشر. الصدمة التي يفعلها الموتُ هي شكل من أشكال العلاج النفسي والاجتماعي. يرتجف المرء أمام الموت، ويُحرّك كل شيء فيه من أجل أن يتموضع من جديد. لا يتخذ الناس خيارا واحدا. البعض يؤبّن نفسه حين يموت الآخرون، ويفتح أمامها الملفات لمراجعة الحسابات وترتيب الأولويات. البعضُ يمضي في حياته من غير أن يهتز كثيرا أمام أجواء الجنازة. ولكن، بعض الأموات يفعلون الأثر في الجميع، ويتركون فيهم تلك البصمة/الصدمة. حين تأتي ساعة الرحيل، يذكّرنا هذا الصنف من الأموات بالخسائر والمفقودات.

الفنان الغرير، مثلا، ذكّرنا رحيله بذلك النوع من الخسائر الفادحة التي حلت على البحرين، منذ العام ٢٠١١م، وحتى اليوم. في هذه السنوات، خسرنا أسبابا كثيرة للفرح. كانت البهجة تتسرّب، أحيانا، بعُسر ومن غير لون، وفي مناسباتٍ عابرة. خسرنا الفرحَ العام، والبهجة غير المؤقتة. لذلك شعر البحرينيون بالحاجة الملحة لمنْ يذكّرنا بالفرح. كان الفنان الغرير يعطينا – في فنّه وفي حياته – تمرينا جميلا على الضحك، والمحبة، والوئام الصّادق، والتعايش المطبوع بالأرضِ والإنسان، بلا تعال ولا غرور، ولا منّة أو تفاضل.
كان الغرير – في حياته وفي موته – تذكار دائم بهذه الأشياء. لهذا أحبّه الجميع، وأجمعوا عليه.

السلطان قابوس مثال آخر. لم ينتظر البحرينيون إعلان الحداد الرسمي. دوّنوا تعازيهم منذ اللحظة الأولى. كان عزاء أهل البحرين مليئا بالصدق. الحزن الذي يفعله الموت، أيّ موت، كان حاضرا في تعازيهم. لكن رحيل قابوس، بالنسبة للبحرينيين، كان فرصة أخرى لإظهار ما يشعرون بخسارته والحنين إليه. هناك تاريخ إشكاليّ لقابوس، ولكن رحيل الرّجل صبّ على رؤوس كثيرين تلك الأشياء الجميلة المفقودة، أقلة في العقود الأخيرة. لم نسمع عن خطابات كراهية ولا سياسات تمييز في عُمان. لم نشهد نسخة “داعشية” من إنتاج مسقط. التعايش الذي يشبك بين العمانيين يكاد يكون حكاية استثنائية في هذا الخليج. رغم توترات التاريخ، استقرّت عُمان على أشكال من التسوية، وآلت الأمور فيها إلى تشاركٍ ما مقبول في العلاقة بين الحاكم والمحكوم.

لا يوجد هناك إجماع كامل على الأشياء والأشخاص. الفن، على سبيل المثال، هو ذائقة نسبية، قد تجد في “طفاش” ملحمة شعبية أخّاذة، وقد تجده ذائقة أخرى مجرد “سكشات” مقطعة من الكوميديا غير المكتملة. ولكن هل من ذائقة “وطنية” لا تُجمع على قيم الفرح النظيف، والتعايش الاجتماعي، وروح المواطن الواحد.. هذه القيم التي قدّمها لنا الراحل علي الغرير في حياته ومماته؟

من المؤكد أن هناك اختلافا طبيعيا مع الراحل السلطان قابوس. السياسة لا يوجد فيها اتفاقات في الغالب. ولكن من الملفت أن الراحل قدّم مثالا ملفتا للدولة التي يهمها أن يكون شعبها آمنا في الداخل. هذه نعمة تأتي حين لا يجد المواطنون أنفسهم ضحية للخيارات غير الآمنة. ما فعله السلطان قابوس هو أنه قلّل بنسبة كبيرة – وبعد تجارب تاريخية قاسية – من أسباب لجوء الناس إلى ذلك النوع من الخيارات. لا يلجأ الناس لهذه الخيارات إلا حين يكونون، في الغالب، مضطرين لذلك، ومحاصرين بهذا الخيار. يرتفع هذا الاضطرار والحصار حين يجدون الأسباب التي تدفعهم للخيارات الآمنة، وأولها دولة تحترم شعبها بدون تمييز، وتقدّرهم من غير منّة، وتعتبرهم كنزها ورأسمالها الحقيقي، فتجعلهم كلهم تحت ظلها الآمن العادل المتساوي، لا تفرق بينهم بسبب مذهب أو عرق أو نسب. هذا ما تذكره البحرينيون يوم وفاة قابوس، فكتبوا تعازيهم في كل مكان.