بقلم: محمد عبد الكريم

كاتب بحريني|

 

في كتابه الشهير، يتحدث الكاتب المعروف رولان بارت عن “الكتابة في درجة تحت الصفر”. يفرّق بارت بين الكلام والكتابة. الكلام يمكن أن يكون أسيرا للغةِ، ويكون معناه محصورا في المعنى المباشر، الذي لا يبقى طويلا بعد خروجه من اللّسان. والكتابة تخدع المعنى المباشر. أي أن المعنى في الكتابة من الممكن أن يكون متواريا، أو مضمرا، أو في الكتابةِ من المعاني ما لا يمكن اكتشافه بسرعة، ويمكن أن يبقى ممتدا زكثر. ما علاقة ذلك بالتسامح في البحرين؟

المجتمع المحلي أنجز، بحيويّة تكاد تكون استثنائية، مشروعه الخاص في التعايش والتسامح الديني. الأهالي، على المدى، قدّموا نموذجهم في هذا المشروع، وبما يفتح النقاش على دلالات مفتوحة، وعميقة، حول قدرة البحرينيين على استيعاب الآخر، وتحويله إلى جزء من المنظومة الاجتماعية القائمة، ولم يتغير ذلك رغم السنين والنكبات. هذا ليس كلاما، بل تاريخا محفورا، تشهده عليه حفريّات سماهيج وغيرها. وهو أيضا واقع ملموس يُثبته البحرينيون كلّ يوم مع المهاجرين، وأصحاب الديانات الأخرى، في كل مناسبة.

في الجهة الأخرى، اليوم، تجتهد حكومة البحرين في تقديم نفسها على أنها مهتمة في موضوع التسامح الديني، وقد قدّمت العديد من “الكلام” والمبادرات في هذا المجال. من الواضح أن هذا الموضوع يشغل حيّزا من اهتمامات الحكومة، وهي تعمل بجهدٍ لافت من أجل أن تكرّس جدّيتها في هذا الاهتمام. في الشهر الماضي، استضافت المنامة الاجتماع الإقليمي للمائدة المستديرة للحرية الدينية، تنفيذا لمذكرةِ تفاهم تمّ إبرامها مع مركز الملك حمد للتعايش، بهدف ترويج الموائد المستديرة حول هذا الشأن في منطقة الشّرق الأوسط وشمال أفريقيا. سبق ذلك العديدُ من الفعاليات التي أقامها المركز المذكور، والذي يحظى برعاية خاصة من ملك البلاد.

في مستوى المعنى المباشر، فإنّ هذه الجهود يمكن أن تخلقَ رسالة أوليّة توحي بأنّ الحكومة تولي موضوع التعايش والتسامح والحريّات الدّينية أولوية كبيرة، وتقدّم لأجله كلّ الاحتياجات والتسهيلات. والشاهد الأبرز الذي تقدّمه الحكومة لإثبات ذلك هو استقبالها لرؤساء الكنائس في البحرين أيام الأعياد، والاهتمام بتخصيص أراض لبناء كنائس جديدة، إضافة إلى فتح الأبواب لاستقبال رجال دين من دياناتٍ مختلفة. يمكن أن تقدّم هذه الخطوات معان أولية إيجابية، بما يعزّز التوجّه الرّسمي الرّامي إلى إرساء روح التعايش والتسامح الديني. ولكن، يبقى ذلك مجرّد معنى مباشر لكلام لم يخضع لاختبار اكتشاف المعاني الأخرى.

في فلسفة التسامح، هناك معنيان مركزيّان:

الأول: إنهاء العداء على أساس الهويّة المغايرة.

والثاني: قبول الاختلاف وتحمُّل التعايش معه.

لابد أن تختفي العداوة والكراهية، بكلّ أشكالها، ضد الهويّات المختلفة، الدّينية وغير الدينيّة. وهذا الاختفاء يعني الإمساك عن أي خطابٍ يزرع هذه الكراهية، من جهة، والإقلاع عن أي سلوك (سياسات) تحرّض على هذه الكراهية. وهذا لا يكتمل إلا حين يكون هناك قبول حقيقي بهذا المختلف، دينيا أو غير ذلك، بتحمّل الاختلاف معه (والتحمُّل هو جوهري في التسامح، ويمنع عن التطرف والعنف المادي والرمزي)، وبالتالي التعايش معه. ولكي يُقنّن ذلك، لابد أن يخضع هذا التحمُّل والتعايش لإطار مرجعي هو المواطنة، بالنسبة للذين يعيشون في وطن واحد. أو إطار الإنسانيّة، بالنسبة لعموم البشر، في كل العالم.

في البحرين، هناك كلامٌ كثير في التسامح، والتعايش، واحترام التنوع الديني. ولكنه كلام لم يثبت نفسه جيدا، أو لم يقدّم الإثبات العملي على معناه الحقيقي. هو كلام في درجة تحت الصفر، أو هو كلام يتحرك بين الحياد الخالي من المعاني، وبين الانحياز المليء بالمعاني غير المحايدة. تبدو هنا الصورة معقّدة! بمعنى آخر: ترويج التسامح والتعايش في البحرين هو مجرد كلام، يتم استهلاكه لأغراض معينة لا تلامس حقيقة هذه المعاني الجميلة. قد يسأل سائل: وما حقيقة هذه المعاني؟

إضافة إلى ما سبق أعلاه بخصوص “فلسفة التسامح”، من المفيد أن ينتبه المعنيون بملف التسامح في البحرين، أمرين هامين:

  • لا معنى لترويج معاني روحية وفلسفية راقية (التسامح، التعايش، والتعددية الدينية) إلى مجتمع لم تُنجز فيه دولة المواطنة المتساوية. تقديم هذه المعاني بدون دولة مواطنة حقيقية؛ هو أشبه بوضعها في وعاء مثقوب.
  • لا يمكن ضمان استقرار وانتشار هذه المعاني الروحية والفلسفية إلا إذا كان ترويجها ونشرها بناء على شراكة مع المجتمع المحلي. ترويج هذه المعاني دون شراكة المجتمع المحلي هو أشبه بوضعها في ثلاجة درجة حرارتها تحت الصفر.