محمد عبدالكريم

كاتب بحريني

الرّجوعُ إلى الماضي هو شبيهٌ بالعودةِ إلى دوائر الصّراع، وعلى طريقة “دانكي شوت”. في البحرين، ثمّة معاناة متعدّدة الاتجاه تأتي من ثقْل الماضي، السّياسيّ والأيديولوجي. المعاناة وشعور الظّلم يبرّر ذلك، إلا أنّ النتائج الموروثة تدعو إلى فعْل آخر أكثر حياة وتسامحا. لا يزال المجتمع في حالٍ، يبدو أنها مريرة، من الاقتتالِ على “الوثيقة الصّحيحة”. تلك الوثيقة التي تُستلّ منها – ومنها فقط – صكوكُ النجاة وبراءة الذّمة أمام التاريخ! بفعل هذه الجدلية، يتحوّلُ التّاريخُ إلى منطقةِ اشتباكٍ حامية، أي ابتلاء البلادِ والعباد بشرور التطاحن والتباعد. هو ابتلاء عظيم، تتحكم فيه الدّوائر الصّغيرة. في هذه الدوائر محاربة على “احتكار الرّواية”، والانتفاخ المزعوم بـ “امتلاك الحقيقة”. النتيجة، هو تعثُّر بناء الدّولة الوطنيّة، وانشطار الهويّات باتجاه الجماعةِ الخاصة، وبصحبةِ أعمالٍ شاقّة في بناء جدرانِ الانعزال والرّيبة المتبادلة.

الحلّ؟

في بعض النقاشات، ترتبط العدالة الانتقالية بإعادة قراءة التاريخ. ولكن لا يوجد اتفاق بين المختصّين على اتفاق بشأن طبيعة هذه العلاقة. ثمّة اتجاه يقول إن العدالة الانتقاليّة غير معنيّة، أصلاً، بإعادة قراءة التاريخ، وتنحصر مهمّتها في كشْف الحقيقة. نظريا، لا كشْف الانتهاكات، وحقيقة المرتكبين لها، من غير العودة إلى السّياقات والظّروف. لا يمكن التعويل على الإقرار الذاتي بارتكاب الجرائم، بل لابد من الإذعان بضرورة الاتفاق على مفاهيم ومصطلحات من قبيل: الذاكرة الجماعية للأمة (أو الذاكرة الوطنيّة)، والحقيقة والمساءلة، والحوار الوطني، والمصالحة الوطنيّة. كلّ هذه المفاهيم تقتضي، في نهاية المطاف، تحديد المقاربة التاريخيّة المتفق عليها.

يقول فرناند بروديل بأن “الهدف الحقيقي لدراسة التاريخ ليس بالضرورة معرفة الماضي، بل اكتشاف الإنسان”. أي أن التاريخ ليس مجرّد سرد وروايات، بل الوقوف على الحياة والتناغم معها.

الشّعوبُ المطحونة بالتّاريخ الخلافيّ؛ اكتشفتْ أنّها أمام خيارين: إمّا الاستمرار في الصّراع، الرّمزي والماديّ، لإثبات صحّة روايتها للتّاريخ، أو القبولُ بإجراءِ قدَرٍ من “الهدنة مع التّاريخ“. الخيار الأوّل يعني الاستمرار في “التذابُح” على التاريخ والأموات، والخيار الثاني يفترضُ إمعان النّظر النقديّ للذّات والجماعة، رغبةً في إنتاج واقع التعايش، والمستقبل الجامع. الشّعوبُ التي تطمح في السّلام، حقا، اختارت الطريقَ الثانية، واجتهدتْ في ذلك اجتهادات كثيرة، بعضها أنتجَ خيرا، وبعضها الآخر فعلَ شيئا شبيها بتحريك “الجرّة”، دون كسْرها. ولكنها لم تستلم للأشباح.

ما فائدة هذه المقدّمة؟

قد يكون كلّ واحد منّا، في البحرين، مضّطرا للاستئناس بهذه المقدّمة الطّويلة، لكي لا نقع في “أفخاخ” التّاريخ التي تطلّ برأسها حتى اليوم. رغم التوضيحات، والتعزيزات الروائيّة، سيظلّ استرجاع التاريخ سببا في التنازع، مادام الغرض من الاسترجاع هو نقضُ رواية الآخر، وإحباط تاريخ المخالفين. يظن بعض الحالمين أن الحلّ يتم برسْم “قواعد الاشتباك”، ليسترجع كلٌّ تاريخه، وروايته للأحداث، في حدودٍ معينة من النقضِ والنقض المضاد، من غير الابتلاء بالإسقاط والإلغاء. إلا أن التجارب أثبتت، أن معارك التاريخ لا يمكن أن تعبُرَ من غير ضحايا وكوارث. ولذلك فإن الاقتراح هو الاستناد إلى استراتيجية “قواعد الاشتراك” مع التاريخ، والبحث عن القواسم المشتركة بين القراءات المتعدّدة للتاريخ، وهي قواسم لا يمكن اكتشافها أو تثبيتها، إلا بنزْع الكراهيّات الموروثة.

جريمة قتل الشهيد عبدالله المدني

لا تزال قضيّة الضّحايا محمد غلوم بوجيري وسعيد العويناتي وعبدالله المدني؛ من الملفات التي تختلفُ فيها الرّواياتُ، وتتقابل حولها الحقائقُ. استمرت هذه الحال منذ ٤٣ عاما، وفي الأغلب بلا نتائج تنفعُ العيشَ في الحاضر، وتُغني الأملَ في المستقبل. فكيف استنفرت الذاكرة، في كلّ مرة، تحريكَ هذه المقاتلة المريرة؟

نفذّت المحكمة في ١٩٧٦ حكما بإعدام ثلاثة أشخاص، بعد اعترافهم بجريمة قتل الشهيد عبدالله المدنيّ، عضو مجلس نواب ١٩٧٣م. كان يمكن أن تنتهي “المصارعة التاريخيّة” بعد إنفاذ حكم الإعدام. إلا أنّ عدداً من محبّي وأتباع المدنيّ آمنوا، حتى اليوم، بالرّواية التي تقول إنّ الفريق السياسيّ الذي ينتمي إليه بوجيري والعويناتي؛ هو وراء ارتكاب الجريمة. هذا الشّد تأسّس على أسبابٍ تتعلق بالمواجهة الأيديولوجيّة التي كانت حامية في البحرين آنذاك، وعلى وجه الخصوص بين الإسلاميين والشيوعيين. لم يتغيّر هذا الإيمان، لدى طيْف من محبّي المدني، وجرى في كلّ عام من هذه الذكرى الأليمة استعادة الجريمة، وعلى الحميّة ذاتها منذ أكثر من أربعة عقود، رغم الشّهادات المخالفة التي قدّمها ضحايا زُجّوا في السجون بهذه التّهمة. أوضحت الشّهادات، وبينها شهادة ضحية التعذيب شوقي العلوي، براءة تنظيم الجبهة الشّعبية من الجريمة، وقدّم العلوي توصيفا محايدا لما حصلَ، وأكّد أن مرتكبي الجريمة ليسوا أعضاء في الجبهة، كما حرصَ على اعتبار المدني شهيدا، جنبا إلى جنب بوجيري والعويناتي ممّن قضوا تحت التعذيب أثناء ملاحقة أنصار الجبهة على وقع الجريمة المدوّية. وكان لافتا استعداد العلوي لإعادة فتح المحاكمة في قضيّة الشهيد المدني، مع توافر معايير العدالة الكاملة.

سواتر الحكومة

سيلاحظ القرّاء، أنّ السّجال حول الروايتين كان يتوقف حينما كانت الحكومة تفيضُ بالسّيطرة، وفي غير حاجةٍ لضوضاء التاريخ. ترتفع الضوضاء، فجأة، حين تصعد أصواتُ الداعين للوطن السّليم، والمواطنة المتساوية. هل يحتاج ذلك إلى تفصيل أكثر؟ لا أظن!

لقد عانت عائلة المدنيّ الكثير، على مدى عقود، وهي تتوقُ لمعرفة حقيقة ما جرى، ومن الطّبيعي أنّها ستكون أكثر اطمئنانا في حالِ انجلت لها الحقيقة كاملة. حريٌّ بالجميع أن يتحسّس هذه المعاناة، بمنْ فيهم أولئك الذين يجدون الاتهامات تدور حولهم. الإحساسُ بالآخر، وتحمّله، والشّعورُ بما يُثقله من حقيقةٍ غائبة، هو الأساسُ العميق للانتقال إلى الحاضر، ومنه إلى المستقبل. ليس بمستطاع العائلة أن تفعلَ ذلك في حال أُحيطت بالاستياء، والمغالبة على روايتها. لاشكّ أن عائلة بوجيري، وغيره، محتاجون لهذا التودّد بالمثل.

المسعى المُنتظر هو أن تتجمّع روحُ الحياة في ورثة المدني وبوجيري. وهم بإخلاصهم لمعاناتهم، على اختلافها، جديرون بأنْ يفعلوا ذلك، ولو اطّرادا، وعلى نحو الخطوة تلو الأخرى. محبّو المدنى وبوجيري مدعوون إلى أن يخرجَ منهم ما ينفض عن روحي الرّاحلين الاستعارات المؤزّمة. أنْ يجتمعا معا، باسم المدني وبوجيري، ويقولا إن كلاهما براء من القتلة الماضين، وأنّ القتل فعل مذموم، من أيّ كان، وفي كلّ زمان. وأنْ يعلنا “التسامح” باسم المدني وبوجيري، ويفعلا ما يمهّد للجذب، بعد أن قيل الكثير من كلماتِ النبذ والطّرد. مثل هذه الوثيقة، حين تكون، تصبح روحُ الفقيدين أكثر ارتياحا وحياة، وأكثر سرورا بالوطن الذي كانا يحلمان فيه. وطن لا يرجف فيه الأمل، ولا يتكاثر فيه الكارهون.