كتب: جمال صالح

 

لا يبدو أنّ التقارير الرّسميّة، حتى السّاعة، تشير إلى إيضاحٍ حكومي شفّاف للأزمة الاقتصاديّة في البحرين. ويمكن في الحدّ الأدنى الحديث عن “اعتراف خجول” بهذه الأزمة من جانب عدد من المسؤولين، وخاصة بعد أن أخذت هذه الأزمة مفاعيل اجتماعيّة، مع خشية منظورة من توسّع التذمّر العام إلى حدود الاحتقان السّياسي.

يتجه هذا التقرير إلى ربْط وضْع البحرين الاقتصادي بالأزمات المتوازية، ولاسيما على ضفافِ ملف الحوار السياسيّ غير المنجز ومؤشّر الشفافية غير الكافي، بسبب الخلاف القائم حول آليات “الحلّ الدائم” بين الحكومة والمعارضة. تواليات الأزمة الماليّة دفعت جهاتٍ حكومية للإقرار بوجود جوانب من هذه الأزمة، ومن ذلك الإيماء بوجود حالات فقرٍ بين المواطنين، محفوفاً بمساع حكوميّة لإنقاذ الوضع الاقتصادي، من بوابةِ المساعدات الخليجيّة وإعادة هيكلة الاقتصاد المحلي عبر سياسة فرْض الضّرائب. إلا أنّ التردّد الرسمي في المكاشفة مع الناس حول تفاصيل خطط الإنقاذ الاقتصادي، وعدم إتاحة الفرص المواتية للتّعاون مع قوى المجتمع الأهلي؛ تسبّبَ في تعميق ارتدادات شبح الأزمة الاقتصاديّة، ولاسيما مع الإحجام حتى الآن عن تهيئة أجواء الحلول السياسيّة وإشراك سلطةٍ تشريعيّة فاعلة في إدارة الملف الاقتصاديّ.

(١)

يتفق المختصّون على أنّ فهْم الوضع الاقتصادي لبلدٍ ما، يتحدّد بمساحة الطّبقة الوسطى في هذا البلد. يُتيح ذلك أيضا معرفة التبعات السياسيّة المترتّبة على السياسات الاقتصاديّة المطبّقة. يشير ذلك إلى أنّ الطبقة الوسطى تعتبر عامل استقرار في المجتمع، وأن الحفاظ عليها وعلى اتّساعها يدلّ على عافية المجتمع، وقدرته الدّاخلية على ممارسة العمل الدّيمقراطي. يفسّر عالم الاجتماع الألماني، ماكس فيبر، الطبقة الوسطى بأنها “مجموعة من الأفراد الذين يعيشون في مستوى اقتصاديّ واجتماعيّ، يأتي بين الطّبقة العاملة وطبقة الأغنياء”، ويؤكد فيبر بأنّ هذه الطّبقة تُشكّل المحرّك الرئيس لتفاعلات المجتمع السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة. في المقابل، فإنّ تهميش هذه الطّبقة، يؤدي إلى ارتفاع منسوب القلق داخل المجتمع، مع إحساس متصاعد بغياب العدالة الاجتماعيّة وانهيار الاستقرار العام في البلد.

في البحرين، تشهد هذه الطّبقة، بشكلٍ مخيف، تراجعا ملموساً، في مقابل الصّعود غير الطبيعي لفاحشي الثراء. يمكن التماس تداعيات الفجوة باسترجاع ما يقوله المفكر الأمريكي، فرانسيس فوكوياما، من أن “وضْع الطبقة الوسطى يُحدّد بشكلٍ أفضل من خلال التعليم والمهنة وملكية الأصول”، مشيرا إلى أن هذه العوامل تُتيح توقُّع السّلوك السياسيّ. يعني ذلك أنّ الحكومة هي المعنيّة بالدرجة الأولى في تآكل الطبقة الوسطى، ودفعها إلى مستوى الإحباط، الذي يفرز في أغلب الأحوال توترات سياسيّة.

(٢)

ملف الضّرائب من الملفات التي يتقاطع فيها المأزق المتراكم الذي تعانيه الطبقة الوسطى في البحرين. فالأغنياء يواصلون الشّراء من غير قلق، والفقراء يلوذون بسياسةِ الحدّ الأدنى الضّروري من الاستهلاك. في حين أنّ الطبقة الوسطى تواجه ضغطا مزدوجا، بين حاجتها التلقائيّة لاقتناء السّلع والحاجات الخاصة بها، وبين تأثرها السّلبي من المحدّدات الطارئة التي اعتاد الفقراء على “التعايش معها“.

يذهب خبراء اقتصاديّون إلى أنّ سياسة الضرائب في البلاد لا تحقّق ميزانَ العدالة، مشيرين إلى أن التوّجه الضرائبي لم يتّبع التدرّج المتوازن، وصولا إلى عموم الناس. ويرى هؤلاء أنّ على الدّولة أولا أن تبدأ بفرْض ضرائب على الثروة، وعلى الأراضي البيضاء، وأن تعمل على تقنين هذه العملية والخروج من مسارها الأحادي، ومن ثمّ الانتقال إلى فرْض الضرائب العامة. مع الإشارة إلى أن الاندفاع الضّريبي “غير العادل”، أدخلَ على الخزينة ما يقارب من ١٤٠ مليون دينار في العام ٢٠١٩م، ومن المتوقع أن يصل إلى ٢٥٠ مليون دينار في العام المقبل، ليكون الدخل من الضرائب ثاني أكبر دخل بعد العائدات النفطيّة. وهذا المحصول العالي لا يعنى سلامة السّياسة الضريبيّة القائمة، والتي يعتريها “الخلل” بحسب اقتصاديين، لأنها في خاتمة المطاف لا تراعي المستوى المتفاوت بين الناس، والذين يتحمّلون ضائقة تدنّي مستوى الدّخل، ورفْع الدّعم عن السّلع الأساسيّة، إضافة إلى توظيف الأجانب من غير حاجةٍ ماسّة لهم، رغم وجود بدائل محلية.

(٣)

لأسباب لها علاقة بطبيعة التركيبة السكانيّة للبحرين، فإن سياسات الحكومة أثّرت على عموم المواطنين، ولكنها ألقت بظلالها السّلبية على المواطنين الشّيعة خاصة، حيث يعانون من التمييز، ولاسيما بعد العام ٢٠١١م. على الرّغم من ذلك، فإن اللافت أنّ أزمة الطبقة الوسطى كان لها صدى على المواطنين السّنة أيضا، الذين يُنظر إليهم نظرة نمطيّة غير موضوعيّة بأنهم “مترفون”. هذا الاتساع “المذهبي” لحدود المعاناة الاقتصاديّة، وبعد الاتساع “الطبقي”؛ بدأ يظهر على السّطح أكثر من السّابق، مع تفاقم أزمات المعيشة في البلاد، في ظلّ انحدار النشاط الاقتصادي في السّنة الأخيرة، بحسب صندوق النقد الدولي، وبالتلاقي مع ارتفاع التضخم إلى ٢.١٪ وارتفاع الدّين العام إلى ٩٣٪ من إجمالي الناتج المحلي. وكالعادة، فإن صندوق النقد الدّولي كرّر دعوته إلى حكومة البحرين لبذل المزيد من “جهود الإصلاح”، ترتكز على جدول أعمالٍ “أكثر شفافيّة”.

(٤)

لا يبدو أن الحكومة في وضْع يدفعها، حتى الآن، إلى الإيضاح “الكامل والشفاف” لواقع الأزمات الاقتصاديّة في البحرين. ولي العهد، الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة، يواصل بدوره تولّي مهمة الإنقاذ الاقتصادي للبلاد، وفق رؤيته الاقتصاديّة، ويضع مراقبون توقعّاتٍ من ولي العهد بالمضي في المسار الذي عبّر عنه في مايو ٢٠١٧م، حيث قال “إننا مقبلون على مرحلة في حياة البحرين تحتاج من الجميع إلى التكاتف وتجاوز الأزمة والنظر إلى البحرين بروح متفائلة وأن يسود الامل بالمستقبل روح الحوار الوطني الشامل الذي يحتاج من كافة الأطراف إلى الإيجابية والتفاؤل والنظر إلى المستقبل نظرة شموليه ترتقي بالوطن من جديد”. هذه الرؤية قد تكون وراء المكاشفة التي طرحها ولي العهد في فترةٍ سابقة بأحد المجالس الخاصة، حيث لوّح بأن البلاد مقبلة على وضع اقتصاديّ غير مستقر، قد يمتد إلى فكّ الارتباط بالدولار، وتعثُّر دفْع رواتب موظفي الحكومة. سيواجه ولي العهد  حجما أكبر من التحدّيات في المرحلة المقبلة، إلا أنّ محللين يرون أن الرّجل سيكون أمام فرصة سانحة لإحداث “انعطافة”، لا تقف عند حدود “الإنقاذ الاقتصادي”، وإنما الاستفادة من ذلك لتوفير الأجواء المحفّزة على إنجاز مستويات من “الإنقاذ السّياسي”، وهو تحليل يشير إلى سيناريو تولي ولي العهد لرئاسة مجلس الوزراء، بعد الوضع الصحي الخاص لرئيس الوزراء الشيخ خليفة بن سلمان.

يضع اقتصادي بحريني خلاصته للمشهد الرّاهن ويقول إن “الصورة لا تبدو حتى اليوم واضحة، بسبب غياب تفاصيل الدعم الاقتصادي الذي تقدّمه دول خليجية للبحرين لمعالجة الأزمة، ما يدفع إلى عدم توفر أجوبة حاسمة بشأن مدى نجاح خطة التوازن الاقتصادي للعام ٢٠٢٢م”.

(٥)

ثمة عراقيل عديدة تواجه نوايا إصلاح الوضع الاقتصادي في البحرين، وتداعياته السّلبية على عموم المواطنين. من ذلك، عدم استقرار “الرأي الرسمي” الواضح بشأن مستوى الفقر في البلاد. توالت في الفترة الأخيرة تصريحات تتحدّث عن “انعدام الفقر” في البحرين، كما قال ذلك مؤخرا الشيخ عبدالله بن أحمد آل خليفة رئيس مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات. وتشير مصادر إلى أن الدولة منعت منظمات دولية من إجراء دراسات لتحديد مستوى الفقر، كما أن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP واجه ضغوطا وعوائق عديدة لعدم تمكينه من إجراء دراساتٍ لتحديد خط الفقر ووضْع البرامج التنمويّة لمعالجة الفقر. في المقابل، تصدر الحكومة أرقاما حول رعاية الأسر المحتاجة، وتعتمد على هذه الأرقام لتحديد مستوى الفقر في البلاد، من غير الاستناد إلى دراسات محايدة.

هذه الضبابيّة، المعزّزة بغياب الشّفافية، وانتشار الفساد الإداري والمالي؛ أثارت اعتراضات عديدة على المستوى الشّعبي، وتضجّ وسائل التواصل الاجتماعي، على مدار الوقت، بالمناشدات والشكاوى الموجّهة إلى المسؤولين. وقد كان لافتا في هذا الصّدد تدشين مواطنين سنّة حسابا تحت عنوان “التجمع الشبابي للعيش الكريم”، رفعوا خلاله مناشدات إلى ملك البلاد والمسؤولين في الحكومة للمسارعة في وقْف تدهور الوضع المعيشي، والتصدّي العاجل لارتفاع وتيرة الحرمان بين عموم المواطنين، من الطبقة الوسطى وشريحة الفقراء.

(٦)

يؤكد باحثون محليّون بأن السّياسة الرّسمية لحكومة البحرين تُعوّل على الهروب من الشّفافية في “الاعتراف بتفاصيل الأزمة المالية”، بالتوازي مع الاستمرار في الإجراءات التي تُرهق في النتيجة كاهلَ المواطنين، وتدفع عددا منهم للبحث عن العمل والحياة الكريمة خارج البلاد. وترى مصادر اقتصادية إنّ استمرار الإدارات والمؤسّسات الحكوميّة في برامجها المثيرة للجدل؛ من المرشَّح أن تدفع إلى تزايد المشاكل الاقتصاديّة طولاً وعرضا، وهو أمر يُنذر بمخاطر غير محدودة، ولاسيما على صعيد تضاؤل مستوى الثقة بين الحكومة والشّعب، الأمر الذي قد يُفرز نتائج سياسيّة غير محمودة، أي تعميق الأزمة الدائرة في البلاد منذ سنوات.